المادة    
  1. اهتمام كتب العقيدة بالقدر

    لقد اهتمت كتب العقيدة التي تسمى كتب السنة بمسألة القدر، فنجد أن من أطولها استدلالاً أبواب القدر، كما في السنة لـابن أبى عاصم والشريعة للآجرى والإبانة لـابن بطة وأمثالها من الكتب التي ألفت في شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
  2. أول شرك وقع في هذه الأمة في القدر

    باب القدر باب عظيم من أبواب الإيمان؛ وأول شرك وقع في هذه الأمة وقع فيه، والإيمان بالقدر لا تحفى أهميته فهو أحد أركان الإيمان الستة التي جاءت في الحديث العظيم المشهور حديث جبريل عَلَيْهِ السَّلام لما جَاءَ إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر عمره بعد أن اكتملت الشريعة، وأبان الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الدين وأظهره، كما روى ذلك عُمَر رضي الله تَعَالَى عنه {بينما نَحْنُ جلوس عند رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد}.
    فأفضل خلق الله تَعَالَى من الملائكة جَاءَ ليبين لهذه الأمة دينها، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند انصرافه: {يا عُمَرأتدري من السائل قَالَ: قلت: الله ورسوله أعلم، قال هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}
    فسأله عن أركان الإسلام عَلَى أرجح الروايات، ثُمَّ سأله بعد ذلك عن أركان الإيمان فقَالَ: {أخبرني عن الإيمان فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت}.
    فجعل الإيمان بالقدر ركنا من أركان الإيمان، وبهذا لا يمكن أن يؤمن أحد عَلَى الحقيقة إلا إذا آمن بالقدر، والإيمان بالقدر نعمة من نعم الله فوق أنه ركن من أركان الإيمان وعبادة لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ومع ذلك يغفل عنه أكثر النَّاس ولا يأبهون به، بل أكثر خلق الله اليوم وفي كل زمان معترضون عَلَى أقدار الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فكما أنهم يعترضون عَلَى أوامر الله الشرعية الدينية ويعصون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمخالفة أمره ونهيه، كذلك يعترضون عَلَى أقداره وعلى ما يبتلون به من المصائب والنكبات التي لا يرضون بها مما يقع في هذا الكون.
  3. غلط الأمم الماضية في القدر

    الإيمان بالقدر معلومٌ لدى الفطر، فأكثر النَّاس في العالم من قديم الزمان وحديثه لا ينكرونه، ولا ينكر القدر إلا الشواذ، وإنما وقع غلط الأمم الماضية في فهمه عندما أثبتوه عَلَى غير الوجه الشرعي، كما ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى احتجاج الْمُشْرِكِينَ عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القدر ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا)) [الأنعام:148] ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا)) [النحل:35] وكذلك ((لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)) [الزخرف:20] وغير ذلك مما اعترض به المُشْرِكُونَ واحتجوا به عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم يثبتون المشيئة لله، وأجابهم الله تَعَالَى في الموضعين في سورتي الأنعام والنحل فَقَالَ في النحل: ((كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[الأنعام:148] وقَالَ: ((كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) [النحل:33].
    فالأمم السابقة كانت تعرف القدر وتؤمن به وتثبته، ولكن لا تؤمن به عَلَى الحقيقة، وإنما تؤمن به في معرض الاحتجاج به لمضادة شرع الله، فتحتج بمشيئة الله عَلَى رضاه ومحبته وإرادته الدينية.
  4. إقرار أهل الجاهلية بعلم الله

    المرتبة الأولى من مراتب القدر: العلم. لم يكن العرب في الجاهلية ولا أي إنسان يشك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم كل شيء أبداً؛ بل ورد ذلك في أشعارهم، فهذا عنترة الفارس الجاهلي الشاعر المشهور يقول في أول قصيدة له:
    يا عبل أين من المنية مهرب            إن كَانَ ربي في السماء قضاها
    فهو مقر بالقدر رغم جاهليته، لكن هذا الإقرار عَلَى تخبط.
    وكذلك زهير يقول وهو في الجاهلية في إثبات المرتبة الأولى من مراتب القدر أي: العلم :
    فلا تكتُمن الله ما في نفوسكم            ليخفي ومهما يكتم الله يعلم
    يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر            ليوم حسابٍ أو يعجل فينقم
    كان يثبت أن الله لا يخفى عليه شيء ((إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ))[الأنبياء:110] فمضمون الآية ذكره زهير في شعره، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بكل شيء، وكان هذا معلوماً لدى العرب الْمُشْرِكِينَ قاطبة، لكن زهيراً هو القائل:
    رأيت المنايا خبط عشواء من            تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرمِ
    فهذه نظرة زهير وهو حكيم العرب الذي يمتاز شعره بالحكم، ففي هذا البيت يذكر أن الموت والأقدار التي تنزل بالنَّاس فيموتون خبط عشواء، والعشواء هي الناقة ضعيفة البصر، تتخبط في المشي يميناً وشمالاً؛ لأنها لا ترى، لكن الأمر ليس كذلك فالله تَعَالَى يقول :((وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَاب)) [فاطر:11] ليس في هذا الكون خبط عشواء أبداً، بل هذا العلم أثبته زهير وكان العرب يثبتونه في الجاهلية.

    يقتضي أنه لا يوجد أدنى شيء في الوجود إلا وهو بحكمة والله هو الذي دبره وقدره كما قال تعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) [الأنعام:59].
    فالشيء الرطب أدنى نقطة من الرطوبة من الماء يقول علماء الأحياء: "لو وضعتها تحت المجهر لوجدت فيها الملايين من الأحياء، تعيش وتموت وفق أعمار قدرها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى" فقدر أن هذا المكروب قد يعيش دقيقة أو نصف دقيقة، فبعضها لا يعيش إلا ثلاثين ثانية، وربما أقل من ذلك، لكن هذا العمر مكتوب ومحسوب ومقدر عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ما تنزل قطرة من السماء إلا والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلمها.
    فهو يعلم منذ أن أخرجها من البحر، وساقها بهذا السحاب، ثم أين تنزل، يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، كل هذا بقدره، ثُمَّ هذه النقطة تقع حيث شاء الله تَعَالَى، فكل شيء عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى معلوم؛ بل أعجب من ذلك: أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قد كتبه وقدره قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فعلْمهُ وكتْبهُ وخلْقهُ كل ذلك منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    إذاً: لا يوجد عَلَى الإطلاق في هذا الكون ولا أدنى ذرة إلا وهي بقدر من الله تعالى، فالعرب في الجاهلية لم تكن تنكر القدر ولكنها تخطئ في فهم حقيقة القدر.
  5. من آثار الإيمان بالقدر

    لما بعث الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى نبينا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الدين العظيم وبين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا ديننا؛ كَانَ من أعظم ما بينه الله في كتابه وما بينه رسوله مسألة القدر، فآمن بها صحابته الكرام والسلف الصالح، وكان لهذا الإيمان الأثر العظيم في طاعتهم لربهم وفي جهادهم في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي تمسكهم بكتاب الله، وصبرهم عَلَى الشدائد والمحن.
    فكان أحدهم يؤمن بأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، كما أمرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يقولوا للمنافقين الذين يشمتون بهم إذا أصيبوا ((قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا)) [التوبة:51] فكان هذا شأنهم لما آمنوا بهذه الحقيقة لا يعصون الله من أجل شيء من الدنيا؛ لأنهم يؤمنون أن ما كتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للعبد من رزق فإنه آتيه، وما لم يكتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلا يأتيه أبداً، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن روح القدس نفث في روعي -أي: ألقى في نفسي- أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقو الله وأجملوا في الطلب}.
    فالإِنسَان يحتاج وقد يطلب ولكن يطلب طلباً جميلاً، أما الإلحاف فليس هذا من شأن المؤمنين، وليس هذا من أدب المتقين في السؤال، فقد كَانَ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من أعظم النَّاس فهماً لحقيقة القدر، وأدركوا وعرفوا أن الإيمان بالقدر والتوكل عَلَى الله يدفع المؤمن إِلَى العمل الصالح، وإلى الاجتهاد في طاعة الله، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولم تكن تأخذهم في لله لومة لائم ولا يهابون في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحداً كائناً من كَانَ؛ فألقى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الرعب في قلوب أعدائهم لما امتلأت قلوبهم بمهابة الله وخوفه والتوكل عليه.

    ثُمَّ أنه حدث في هذه الأمة ما حدث في غيرها، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن أو لتركبن سنن من كَانَ قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} وفي رواية: {حتى لو أن أحدهم أتى امرأته عَلَى قارعة الطريق لفعلتموه}.
    نعم هذه مصيبة ابتليت بها هذه الأمة كما ابتلي غيرها من الأمم من قبلها، وقد ظهر الجدال في القدر في الأمم التي قبلنا عند النَّصَارَى واليهود واليونان والهنود فكانوا بين جبرية وبين قدرية منكرين، وكان الغالب عَلَى النَّاس -كما هو الحال اليوم- الجبر والاعتراض والاحتجاج بالقدر عَلَى الشرع.
    أما النفي المطلق فلا ينفي القدر نفياً مطلقاً إلا الشواذ في جميع العصور؛ لكن وقع الخلاف فيمن كَانَ قبلنا وكذلك في هذه الأمة، وهذا أراده الله وقدره، ولم يقع الخلاف في القدر في عصر الخلفاء الراشدين، وإنما وقع بعد ذلك، والذين أدركوا القدرية هم صغار الصحابة الذين كانوا في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحداثاً مثل عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأمثالهما.

    فلما ظهر معبد الجهني في البصرة، وأنكر القدر جَاءَ التابعون إِلَى أصحاب رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونهم، فسألوا ابن عمر وسألوا ابن عباس، وظهرت مقالة القدر في موضعين: البصرة ودمشق، وظهر في البصرة أمر آخر هو الغلو في التعبد "التصوف". فـالصوفية الأوائل ظهروا في البصرة.
    وأبعد البيئات عن البدع هي بيئة مكة والمدينة لوجود أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهما بكثرة، ولأنها بعيدة عن فلسفات الهند واليونان، وبعيدة عن ضلالات اليهود والنَّصَارَى فهي بيئة نقية صافية.